بسم الله
الرحمن الرحيم
* بين يدي الشاعر:
امرؤ القيس
بن حجر الكندي (الملك الضليل أو ذو القروح...)، اختلف في تاريخ وفاته فجعلوه بين
530 و 540 و 560 م. وهو أمير سليل عائلة ملكية (أبوه كان ملكا)، تكالبت عليه قبيلة
أسد وقتلته، فتجرد امرؤ القيس- ما بقي من حياته- لأخذ الثأر دون أن ينال بغيته.
وفي هذا السياق تأتي القولة المشهورة التي يوردها صاحب "الأغاني":
(ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر).
* بعض
الأقوال فيه:
- قال ابن
سلام الجمحي: (احتج لامرئ القيس من يقدمه قال: ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق
العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه،
والبكاء في الديار ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبيض وشبه
الخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين
المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيها).
- من هذا
المنطلق كان الأصمعي يرى أن امرأ القيس أجود الشعراء جميعا، وكل الشعراء عيال
عليه، وكان لبيد أيضا يقدمه على باقي الشعراء، وكذلك الشأن بالنسبة لعلماء البصرة.
- قال علي
رضي الله عنه: (كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة).
- وقال فيه
النبي صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيس أشعر الشعراء وحامل لوائهم إلى النار) –
إذا صح هذا الحديث-؟
يذهل
المتصفح لديوان الشعر العربي من الموقع الذي تحتله معلقة امرئ القيس، وهي أشهر نص
شعري جاهلي، بل أشهر قصيدة في هذا الديوان إطلاقا، حتى إنها غدت مضربا للأمثال على
شهرة الشيء فيقال: (أشهر من قفا نبك)،
بنحو يدعونا إلى التساؤل: من أين استمد هذا النص شهرته؟ ما سر الاحتفاء به
في زمنه وفي الأزمنة التي تلته؟ كيف صارت أبياته الشاهد الأثير في المجالات
المعرفية المختلفة: اللغة – النحو- البلاغة والنقد؟
ولابد من
الإشارة إلى صعوبة الإمساك بحقيقة هذا النص وإنجاز قراءة تأويلية – بالنسبة للطالب
المبتدئ-، وتتبدى هذه الصعوبة في طبيعة لغته وتوسله بتعبير أضحى في يومنا غير
مألوف ولا معتاد، يستدعي بالموازاة مع فعل القراءة الاستعانة في كل وقت وحين
بالمعاجم اللغوية (أو بالمتون الشارحة) لهذا النص
في سبيل تبين دلالات الألفاظ وتخريج التراكيب.
ثم تتبدى
الصعوبة الثانية على مستوى اكتشاف الروابط القائمة بين وحدات النص وتحولاته
الدلالية (الوقوف على الأطلال- الغزل والمغامرات النسائية- وصف الفرس – البرق...)،
ويبدو – ظاهريا – أننا لسنا إزاء نص واحد،
بل إزاء نصوص مختلفة تؤلف بينها وحدة الوزن والقافية.
إن ما نريد
أن نومئ إليه هو التساؤل بيسير من الشك الماكر: هل النص الذي بين أيدينا هو النص
الحقيقي الذي أبدعه امرؤ القيس؟ إنه سؤال مشروع فيما يخص هذا النص وغيره من النصوص
الشعرية الجاهلية، لاسيما في ضوء تأخر فعل التوثيق الكتابي عن تداول النصوص
شفاهيا، فضلا عن تعرض النص – وهو تتناقله الألسنة- لتغييرات وتهذيبات كثيرة،
يجلوها تباين الروايات واختلافها.
ومهما كانت
طبيعة هذه الأسئلة وخطورتها، فليس من شأنها أن تمنعنا من تأمل هذا النص الشعري،
ومحاولة مقاربته بالدراسة والتحليل، إذ لا نروم من إثارتها سوى تثبيت سوء الظن
الإيجابي في عقول باحثينا وطلبتنا، وهو الكفيل بتحفيزهم على السؤال والبحث عن
الحقائق ومراجعة الثوابت التي أخذت موقعها الراسخ في التداول.
1-
المستوى البنائي للنص:
نستشف من
خلال تدبر هذا النص تنوعا دلاليا وكثافة مضمونية استفرغت في مساقات بنيوية أو
بنائية كبرى وصغرى، نحددها كالآتي:
* بنيات
النص الكبرى:
1- الوقوف
على الأطلال (الأبيات 1-6).
2- وصف مغامرات الشاعر مع صويحباته (الأبيات
7-43).
3- وصف
الليل (الأبيات 44-48).
4- وصف
مسالك الرحلة (49-52).
5- وصف
الفرس (الأبيات 53-70).
6- وصف
البرق والمطر (الأبيات 71 إلى آخر النص).
*
البنيات الجزئية الصغرى:
1- الوقوف
على الأطلال وتذكر الأحبة (1- 6).
2- تخلصه
إلى الغزل واستذكاره لأحلى أيامه مع النساء خاصة يوم دارة جلجل (7-18).
3- توسله
إلى محبوبته فاطمة منكسرا أمامها ومتوددا إليها (19-22).
4- وصف
مغامراته النسائية التي لا تخلو من تجاوز (23-30).
5- تشكيل
ملامح المرأة الأنموذجية (30-43).
6- وصف
الليل وما ران عليه به من أحزان وهموم (44-48).
7- وصف
رحلة الصيد مع فرسه (49-70).
8- وصف
البرق والمطر وما يحدثانه في الطبيعة والإنسان من آثار (71 إلى نهاية النص).
ولئن كان
سهلا تحديد بنيات النص الدلالية، فإن الإشكال ظل موصولا بتصنيفها الغرضي نظرا إلى
تنوع هذه البنيات، خاصة إذا علمنا أن ماهية القصيدة القديمة مرتبطة أساسا بمفهوم
الغرض، أضف إلى ذلك أن لفظ "القصيدة" نفسه ينطوي على معنى القصد
(الغرض). فضمن أي غرض يمكن تنصيف قصيدة امرئ القيس؟
إن تجاوز
المقدمة الطللية التي نسلم بكونها جزءا شكليا ونمطيا، أو مجرد ابتداء ضروري قبل
الإدلاف إلى الغرض المركزي، يجعلنا نصنف القصيدة ضمن غرض الغزل، اعتبارا لكونه
الغرض الذي يحسن إليه الشاعر التخلص، واعتبارا أيضا لكونه الوحدة المهيمنة كميا
على القصيدة (من البيت 7 إلى 47). غير أن هذا التصنيف لا يكاد يصمد أمام توالي
وحدات دلالية أخرى لا علاقة لها بالغزل (وصف الليل- وصف الفرس- وصف البرق). وهو ما
يدعو إلى البحث عن الترابطات الدلالية الممكنة أو السلك الناظم لهذه الوحدات. وقد
بدا لنا من خلال قراءة متأنية ومتكررة للقصيدة أنه على كونها قصيدة مركبة ومتعددة
الأغراض (الغزل- الوصف-الفخر)، إلا أنها توحدها تيمة أساسية تنسرب في ثناياها
وتقبع في تضاعيفها هي تيمة "المغامرة".
- مغامرة
الشاعر مع النساء.
- مغامرته
مع الوحوش في زمن ليلي ومكان صحراوي.
- مغامراته
الطردية بمعية فرسه.
- مغامرته
في ليلة ممطرة.
2-
المستوى الإيقاعي (الصوتي):
بحر
القصيدة:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() / / 0 / 0 / / 0 / 0 / 0 / / 0 / 0 / / 0 / / 0 فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن بسقط للوى بين ددخول فحوملي / / 0 / 0 / / 0 / 0 / 0 / / 0 / // 0 // 0 فعولن مفاعيلن فعول مفاعلن |
اصطنع
الشاعر أوزان الطويل وهي من الأوزان الفخمة والشائعة، والتي تناسب مقاصد الجد من
مدح وفخر وغيرهما، وتلائم أغراض التأمل، وقد وفق الشاعر في اختيارها انسجاما مع
غرض القصيدة وما يتطلبه من طول النفس.
واللافت أن
الضرب والعروض مقبوضتان (حذف الخامس الساكن) وكذلك الشأن بالنسبة لحشو عجز البيت،
ويلتزم الشاعر في بحر الطويل إدخال القبض في الضرب والعروض على امتداد القصيدة متى
حصل ذلك في البيت الأول، بنحو يمكن من تسريع الإيقاع والتخفيف من رتابته وإفراطه
في الطول.
-
القافية: (من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع
حركة الحرف الذي قبل الساكن)، فهي في البيت الأول (حومل) غير مؤسسة ولا مردفة
ولكنها موصولة، وهي من نوع المتدارك (أي توالت بين آخر ساكنين منها حركتان: 0//0).
ورويها اللام (مكسور).
تتكون
كلمات القافية في معظمها من الأسماء، اللهم إلا من 13 فعلا (ولذلك دلالاته...).
التزم
الشاعر ما اصطلح عليه البلاغيون بالتصريح (ومنزل - فحومل)، لأداء وظيفة إيقاعية –
جمالية، غايتها التمكين للقافية والتبشير بها – كما ورد في قصيدته الترصيع أيضا:
مكر مفر + مقبل مدبر.
ومن
الملاحظ الأساسية عدم اعتماد الشاعر – بكثرة – على المحسنات البديعية، ومسوغ ذلك
أن القصيدة تنتمي إلى بدايات الشعر العربي، ذلك بأن الإعلاء من شأن المحسنات
والاحتفاء بها أمر حادث وطارئ في الشعر العربي، فقد تأتى استقواء المنزع البديعي
مع بعض شعراء العصرين الأموي والعباسي وبلغ ذروته مع أبي تمام.
ومع ذلك،
لا تخلو القصيدة من بعض أساليب التكرار و الجناس والطباق وغيرها، مما جاء عفو
الخاطر وفي حل من التكلف والتمحل، ومن أمثلة ذلك:
*
التكرار والجناس: يوم – يوم (ب 10) / دموعي – دمعي (ب
9)/ الخدر-خدر (ب 13) شق – شقها (ب 17) /سلي- تنسل + ثيابي – ثيابك (ب 21)/ أحراسا
– حراصا (ب 24 ) تعرضت – تعرض ( ب 25)/ جيد – جيد (ب 33)/ صبح – الإصباح (ب 46)
تسلت منسلي ( ب42) / يحترث – حرثي – حرثك (ب 52) يزل – زلت – المتنزل (ب 55) جياش –
جاش (ب 56)/ باب- بات (ب 70) / ترى – أريك (ب 71)...
*
الطباق: انصرفت – لم يحول (ب 17) / مثنى – مرسل (ب
35)/ أعجازا – كلكل (ب 45) / مكر- مفر+ مقبل – مدبر (ب 54) / ترق (من الترقي) - تسفل
أو تنزل (ب 69)/ أيمن- أيسر (ب 74).
أضف إلى
ذلك أن ثمة كلمات تكررت كثيرا على مستوى النص، فكانت بمثابة الروح الذي يسري فيه،
مثل: الصبا – الرسم- الرحل- المطية – العذارى- القلب....
والظاهر أن
الشاعر قد استعاض عن الإغراق في هذه المحسنات والإسراف فيها بنمط آخر من
الموازنات، من قبيل تغليب المد والسكون في مقدمة قصيدته، فلنتأمل ذلك في قوله:
(قفا – ذكرى – حبيب – اللوى – الدخول – توضح – المقراة – رسمها – لما – نسجتها –
جنوب – ترى – الأرآم – عرصاتها – قيعانها).
بهذا
الفهم، نخلص إلى أن سيادة المد يلائم الطبيعة الحزينة للمقدمة، علاوة على إمكانية
المماثلة بين تردد صدى الحروف، واسترجاع
الشاعر لصدى أحداث ولت في نفسه. ويتأكد هذا المنزع الحزين من سيادة أو إعمال حرف
روي مكسور مشبع أحيانا (لي)، وهو ما يساوق نفسية الشاعر المنكسرة والمحطمة.
3-
المستوى المعجمي:
اجتهد
الشاعر في التوليف بين معاجمه التي شكلت مرآة صادقة لحياته ونفسيته ومثله ومحيطه،
إذ نهل من بيئته ومن حيزه الصحراوي، فبرع في استثمار الطبيعة بشقيها الجامد
والمتحرك (أمكنة – إنسان – حيوان...) معبرا عما يختلج بدواخله، وما يستشعره من
آلام وآمال بواقعية ووضوح تنم عن حرية التفكير وصفاء الفطرة، ومن أهم المجالات
الدلالية التي تحرك في إطارها نذكر:
-
المجال البيئي الطبيعي / الوجودي: سقط اللوى- الدخول –
حومل – توضح – المقراة – جنوب – شمأل – الآرآم – عرصات – قيعان – حب فلفل – سمرات –
حنظل – مطر – رسم دارس – نسيم الصبا – ريا القرنفل – محملي – الدمقس – الكثيب –
الخدر – الخباء – الثريا – السماء- الوشاح – وحش – الريم – قنو النخلة – ظبي – ليل
– موج البحر – تمطى- ...
-
المجال الاجتماعي: قفا نبك – الصبابة – عقرت للعذارى – الخدر –
الغبيط- اللهو – الأحراس- والمعشر –
القتل- الغواية – الحي – نؤوم الضحى – الحليم- الهوى – نصيح – تعذاله – خصم –
أقوام – كاهل مني ذلول- طهاة اللحم – أصاح – راهب – صحبتي – اليماني...
نستشف –
إذا – من هذا السياق المعجمي استرفاد الشاعر من ذاته ومحيطه خاصة على مستوى
الأماكن الخاصة والعامة، المحددة وغير المحددة (منزل – سقط اللوى – الدخول – حومل –
توضح – المقراة- عرصات – قيعان – بين – رسمها – الحي – وقوفا بها – مأسل – دارة
جلجل- الكثيب – الخدر – خباؤها – السماء – الستر- ساحة الحي – بطن خبت – قفاف
عقنقل – البحر – نجومه – واد قفر – وكنات الطير- عَلِ – الكديد – الأرض – تيماء –
أجما – ذرى – صحراء – أرجائه..)- أما ذاته فظلت موصولة برؤية عاطفية مترجحة (نبك –
الصبابة- اللهو – الغواية – الهوى – تعذاله – القلب...). فالشاعر يسعى إلى ترسيخ
صورة المغامر الشجاع، المرغوب فيه، فلا يفتأ أن تنفلت منه صورة أخرى مخالفة هي
صورة المرغوب عنه المنكسر، المهزوم. وهذه الصور المتناقضة نلمحها أيضا في استعارته
لبعض الأشياء من المحيط مما يكشف عن اضطراب دواخله وعدم استقرار نفسيته: صورة
الفرس المثالية الجامعة بين السرعة والقوة والجمال... وصورة الليل في جانبه السلبي
الذي يحمل بين طياته معنى الهم والحزن والوحدة والتوجس، ثم صورة الرعد والمطر وهي
من المسائل القليلة الحصول في بيئة الإنسان الصحراوي الجاهلي، وتحمل بين أطوائها
أيضا صورا متناقضة (صورة الغيث والحياة وإلباس الأرض حللا خضراء رائقة ¹صورة الدمار واقتلاع المنازل والأشجار وجرف الحيوان والإنسان...).
4-
المستوى التركيبي:
4-1-
النحو: سنكتفي فيه بدراسة مقتضبة تتجه رأسا إلى الزمن
النحوي (بنية الأفعال) وبنية الضمائر، لما لهما من أهمية في تحديد مسار أي نص
شعري، والكشف عن موجهاته الجلية والخفية.
* الزمن
النحوي: نسجل هيمنة الزمن الماضي، حتى إن كثيرا من
الأفعال المصوغة على شاكلة المضارع تتجرد من زمنيتها الدالة على الحال والاستقبال،
لتنخرط مع بقية الأفعال في مساقها الدلالي المشدود نحو الماضي، إذ تفتح نوافذ
الذاكرة على مصراعيها لتسافر بمعية ذكرياتها بدءا من الرسوم الدارسة، مرورا
بدارة جلجل وما أثثها من أحداث كانت
المحبوبة طرفا فيها انتهاء بسيل من الأحداث التي شدت وثاق الشاعر إلى ماضيه فاستبد
به الحنين إلى الأيام الخوالي التي يستمد منها قوته ... (نسجت – تحملوا – فاضت –
بَلَّ- عَقَرْتُ – ظل – مال – طرقت – ألهيت – تعذرت – أزمعت – تمتعتُ – تجاوزت-
جئت – نضت- قمت- طرقت- انتحى- مددت- تمايلت – تسلت- رددت- أرخى- تمطى- أردف- ناء-
قطعت- عًَنَّ – رحنا- بات- قعدت- علا- أضحى- مَرَّ – أنزل- ألقى...).
* بنية
الضمائر: كانت كل الضمائر موجودة في هذا النص بشكل
لافت، فالمتكلم يعبر عن ذات الشاعر. وهذه الذات أو "الأنا" كانت في
مواجهة "الآخر" الذي توزع بين ضميري المخاطب والغائب، فكان الآخر-
المخاطب- غالبا- هو فاطمة أو عنيزة محبوبة الشاعر، في حين أن الآخر – الغائب فيتجه
غالبا نحو محبوباته الأخريات.
إن صورة
الآخر- الغائب هي صورة الراغب المحب للشاعر، إذ تكشف عما يعتمل في وعيه من صور
البطولة والفروسية وأن جماله له تأثير خاص في قلوب العذارى، أما صورة الآخر –
المخاطب فهي صورة المرغوب فيه، وهي تجسيد للحظة الواقعية الحاضرة، موقف المواجهة
الذي يقتضي الاعتراف والإقرار.
وبصرف
النظر إلى المتكلم (أنا الشاعر) نسجل ازدواجية في الصورة التي يضفيها على ذاته،
نظرا إلى تغيير نمط الخطاب أو ما يسمى باستراتيجيا الخطاب، كلما تغير الضمير أو
التفت من المخاطب إلى الغائب.
4-2-
البلاغة:
* علم
المعاني:
1- قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى بين الدخول
فحومل
|
في هذا
البيت التماس، ذلك أن استعمال الأمر هنا (قفا نبك) كان بعيدا عن النبرة الإلزامية.
ولا جرم، فالخطاب كان بين نِدَّين على جهة التساوي.
2- وفرع يزين المتن أسود فاحم
غدَائره مستشزرات إلى العلا |
|
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
تضل العقاص في مثنى ومرسل |
درج
البلاغيون على استثقال لفظة "مستشزرات" نطقا وسمعا، ما يسحب عنها
فصاحتها، ويجعل الذوق العام يمجها. إلا أنه بالنظر إلى سياق القول نجد اللفظة
متمكنة في موقعها، ذلك بأن الشاعر يصف شعرا متنافرا، حتى إن العقاص تَضِلُّ في
المثنى منه (المفتول) والمرسل (غير المفتول).
بهذا
الفهم، تكون اللفظة – على ثقلها – مناسبة للمقام وفصيحة في هذا السياق دون غيره.
3- أغرك مني أن حبك قاتلي
|
|
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
|
في هذا البيت استفهام بالهمزة (أ)، وهو هنا خارج
عن معناه الأصلي، إذ يدل هنا على الإنكار، أي لا ينبغي أن يغرك ذلك، وما كان لزاما
عليك أن تعتقدي بأني متميم بهواك أفعل ما تأمرين. وهذا النوع من الإنكار يسمى
بالإنكار التوبيخي.
4- ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
|
|
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
|
فالشاعر تكالبت عليه الشدائد حتى هجره النوم
وجافى مرقده، فتمنى أن ينجلي الليل، وينأى بظلامه عنه حتى ينعم بالصباح، ثم راح
يراجع موقفه قائلا:
(وما
الإصباح منك بأمثل)، فأنت وهو سواء.
وليس الغرض
من فعل الأمر (انجلي) طلب انجلاء الليل، لأن الليل لا يخاطب، وإنما يتمنى الشاعر
ذلك. (الأمر هنا للتمني).
5- فيا لك من ليل كأن نجومه
|
|
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
|
استعمال
لأسلوب النداء بوساطة الأداة "يا"، ولكن المقصود هنا ليس النداء وإنما
"التعجب"، وبذلك يكون النداء قد خرج من وضعه الأصلي لكي يدل على شيء
آخر، وهو "التعجب".
* علم
البيان أو الصورة الشعرية:
اعتمد
الشاعر أسلوب التصوير في قصيدته بكثافة، وذلك بغية السمو بكلامه والارتفاع به عن
مستوى الكلام العادي إلى مدارج الكلام الشعري الموحي، إذ ما أن تسترسل في قراءة
هذه المعلقة حتى تواجهك جملة من التشبيهات التي تركز على ظواهر الأشياء في بعدها
المادي المحسوس. ولعل قيمة هذه القصيدة وسر الاحتفاء الكبير بها، يؤول في تصوري
إلى هذه الخاصية التي تكاد تستغرق نصف القصيدة، وسنحاول الوقوف على أبرز هذه
الصور:
ترى بعر الأرآم في عرصاتها
|
|
وقيعانها كأنه حب فلفل
|
تشبيه بعر
الظباء بحب الفلفل.
- كأني غداة البين يوم تحملوا
|
|
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
|
يشبه
الشاعر نفسه عند رحيل الأحبة، وهو واقف قرب الأشجار يبكي كمن يشق الحنظل لاستخراج
حبها فتبكيه مرارته.
- إذا قامتا تضوع المسك منهما
|
|
نسيم الصبا جاءت بريا
القرنفل
|
يشبه رائحة أم الحويرث وأم الرباب برائحة
القرنفل وقد أتى به نسيم الصبا.
فظل العذارى يرتمين بلحمها
|
|
وشحم كهداب الدمقسن المفتل
|
يشبه شحم
ناقته بحرير أبيض مسترسل ومفتول.
- إذا ما الثريا في السماء تعرضت
|
|
تعرض أثناء الوشاح المفصل
|
يشبه
الثريا في السماء بالوشاح المزين بأنماط اللآلئ.
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
|
|
تمتعت من لهو بها غير معجل
|
بيضة الخدر
هنا كناية عن المرأة (البيضة هنا هي المرأة، والمقصود غالبا هو بيضة النعامة).
- مهفهفة بيضاء غير مفاضة
|
|
ترائبها مصقولة كالسجنجل
|
يصف المرأة
بمجموعة من الأوصاف ويشبه صدرها المصقول بالمرآة أو الذهب والفضة.
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها
|
|
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
|
نؤوم
الضحى: كناية عن وجود من يخدمها، فهي لا تستفيق باكرا، بل تنام حتى الضحى نظرا إلى توافر الخدم.
- وليل كموج البحر أرخى سدوله
فقلت له لما تمطى بصلبه |
|
علي بأنواع الهموم ليبتلي
وأردف أعجازا وناء بكلكل |
فالمشبه في
البيت الأول هو الليل في ظلامه، والمشبه به هو موج البحر، ووجه الشبه هو الظلمة
والروعة، كما شبه الليل بالخيمة أرخت سدولها للدلالة على الهم.
أما في
البيت الثاني فقد استعار لليل أردافا وأعجازا.
- وقد أغتدي والطير في وكناتها
مكر مفر مقبل مدبر معا |
|
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
كجلمود صخر حطه السيل من عل |
شبه فرسه بالقيد الذي يقيد الأوابد (الوحوش)،
نظرا إلى سرعته، كما شبهه في قوته وحركاته السريعة بالصخر الذي حطه السيل (أي
الماء) من أعلى قمة الجبل.
- فيا لك من ليل كأن نجومه
|
|
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
|
فهو يشبه
نجوم الليل في ثباتها وعدم تحركها كما لو كانت قد شدت بشيء مفتول قوي إلى الجبل.
- كأن الثريا علقت في مصامها
|
|
بأمراس كتان إلى صم جندل
|
هذا التشبيه أيضا في ثبات الليل، لأنه يخيل
للشاعر في طوله كأن نجومه مشدودة بحبال الكتان إلى صخور صلبة، وإنما استطال الليل
لمعاناته الهموم.
- له أيطلا ظبي وساقا نعامة
|
|
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
|
يشبه قوائم
فرسه بأيطلا الغزال وأن ساقيه كالنعامة ومشيته كمشية الذئب وركضه كابن الثعلب.
هذه نماذج
للصور الشعرية، ارتأيت الوقوف عليها – إيجازا- وإلا فإن المعلقة ملأى بالصور خاصة
في الأبيات (21 – 22 -33- 34- 36- 38- 39- 41 47- 50- 52- 55- 56- 62- 63- 64- 65-
71- 72...).
*
الأسلوب القصصي في النص (مقومات البنية السردية):
يكثر
الشاعر من سرد ذكرياته ومغامراته الغرامية والطردية؛ إذ يتجاوز السرد المباشر في
معلقته إلى التصوير الفني (قصيدة عاطفية). هذه القصة التي تؤثثها جملة من الأحداث
يحاول الشاعر إبلاغها في أسلوب مشوق وآسر:
1-
الحدث: تضمنت المعلقة جملة من الوقائع الجزئية التي
تشكل الحدث في القصة:
*
المشهد الأول: يترقب من خلاله بطل القصة (الشاعر)
حلول الظلام ليجتاز الحراس المحيطين بمكان وجود حبيبته والحريصين على قتله لو
اقترب من المكان، من قوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها، إلى قوله: إذا ما الثريا في
السماء تعرضت.
فبطل القصة
يتربص فرصة التسلل إلى الحسناء المصونة في خبائها والمحاطة بحراسة مشددة.
*
المشهد الثاني: تمكن البطل بالفعل من التسلل إلى
الخدر، في غفلة من أعين الحراس، ليجدها في ثياب النوم، وقد وقفت عند الستر مترقبة
حضوره:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
|
|
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
|
*
المشهد الثالث: يخرج البطل في هذا المشهد مع حبيبته
من خدرها، وهي تجر ثيابها حتى تعفي أو تخفي آثار أقدامهما، ويجتازان ساحة الحي
ويخرجان من بين البيوت إلى أرض مطمئنة، حيث يطيب حالها:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى |
|
على إثرنا أذيال مرط مرحل
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل |
هذه -إذا- مجموع الوقائع التي رصعت الحدث داخل
النص.
2-
الشخصيات:
تعد
الشخصية ميسما أساسا وعنصرا مركزيا في البناء القصصي، ويمكن اعتبار امرئ القيس
بطلا لهذه القصة. أما باقي شخصياتها فهي خليلاته اللائي يذكرهن إظهارا أو إضمارا،
أي أنه يسميهن أحيانا ويومئ إليهن – وصفا- أحيانا أخرى. وابرز هذه الشخصيات جميعا
قسيمته في البطولة عنيزة ابنة عمه ومحبوبته في الآن معا (عنيزة أو فاطمة):
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل |
|
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي |
3- السرد:
إن السرد
هو نقل الحادثة أو الواقعة من صورتها الواقعية إلى صور لغوية. ولاشك أن الصورة
الشعرية هي أرقى الصور اللغوية التي من شأنها أن تنقل الأحداث وتترجمها.
وقد أفلح
امرؤ القيس في سرد قصته وإثارة التشويق في نفسية المتلقي، متوسلا في سبيل ذلك
بمتوالية من الصور الفنية خاصة الصور التشبيهية.
4-
الزمان والمكان:
وهما من
أهم عناصر بناء القصة:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
|
|
تعرض أثناء الوشاح المفصل
|
فالشاعر
تسلل إلى محبوبته ليلا في وقت إبداء الثريا في الأفق الشرقية. وهذا هو زمن القصة.
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
|
أي جاوزا
ساحة الحي وخرجا من البيوت، وصارا إلى أرض مطمئنة تحيط بها مرتفعات. وهذا هو مكان
القصة.
5-
الحوار:
للحوار
علاقة بما يستكن بدواخل الشاعر وما يروج بخوالجه، إذ يكشف عن أحاسيس الشاعر
ومشاعره الحقيقية. ومن مظاهر الحوار:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
فقلت لها سيري وأرخي زمامه |
|
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
ولا تبعديني من جناك المعلل |
6-
الفكرة:
لعل
الأحداث والشخصيات تتفاعل خدمة للغرض الأساسي من الفكرة التي يرومها القاص أو
الشاعر هنا.
وقد اجتهد
امرؤ القيس في حشد ما يسعفه في إقناع المتلقي بصورة الشاعر المغامر والشجاع
(مغامراته مع النساء وعدم تهيبه من الأهوال (الحراس+ الوحوش...).
خاتمة
نخلص إلى
القول إن هذا النص قد حافظ على جملة من الخصائص التي ميزت القصائد الشعرية
الجاهلية، منها:
- حفاظه
على المقدمة الطللية بوصفها علامة رمزية يحكمها مبدأ التعاقد والاتفاق (la convention)، ما
يقتضي البحث عن قيمتها الذاتية أولا (بالنسبة إلى علاقتها بالمبدع)، ثم عن قيمتها
الحضارية والثقافية، فقد سبق لا مرئ القيس أن وقف على الطلل قائلا:
عوجا على الطلل المحيل لأننا
|
|
نبكي الديار كما بكى ابن
خذام
|
كما وقف
عليه عنترة أيضا، حين قال:
هل غادر الشعراء من متردم
|
|
أم هل عرفت الدار بعد توهم
|
- حسية
التعبير وسيادة التشبيه.
- الوصف
والتدقيق في الجزئيات.
- استعمال
بعض المحسنات البديعية.
- استعمال
البيئة والمحيط استعمالا لافتا للانتباه.
- الفروسية
(وهي من الخصال التي احتفى بها الجاهلي).
- الميول
الحربية (رحلة الصيد) + البعد الاجتماعي (الرفقة إلى الصيد + النصح...)...
الخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق