.

.

السبت، 23 يوليو 2016

منهجية تحليل النص الأدبي



د. الحسين أبت مبارك
1- المقدمة:
نسعى من خلال المقدمة إلى وضع فذلكة موطئة لارتياد النص، وتفكيك ما تضافر على تكوينه من مكونات بنائية وإيقاعية ومعجمية وتركيبية ودلالية، وغالبا ما ننحو في هذه المقدمة نحو تأطير النص أو المرحلة التي نشأ فيها وإبراز علاقة النص بصاحبه. أو ننزوي إلى الحديث عن بعض المفاهيم كمفهوم الإبداع أو التحليل وما يرتبط به من تفسير وتأويل وغيرهما، أو الجمع بين هذه المداخل كلها، شريطة ألا ننفض إلى مجاوزة الحد في التطويل.

2- بناء النص: 
ينصرف الحديث في هذا المستوى إلى معمارية النص أو شكله الخارجي الشاخص أو المترائي في صيغة وحدات هي: الوحدة التمهيدية والوحدات المركزية ثم الوحدة الختامية، وكثيرا ما تختفي إحدى هذه الوحدات لفائدة غيرها، فالوحدة التمهيدية مثلا قد تكون طللية أو غزلية  أو خمرية مثلما يمكن للنص أن يتحلل منها جميعا فيدلف بنا إلى وحداته المركزية بغير مقدمات.
ولعل توسل المبدع بالنمط البنائي الذي يتأسس على المبدأ والخروج والنهاية يجعل النص موسوما بطابع الانسجام وجانحا نحو التكامل بناء على أن القصيدة في تصور ابن رشيق القيرواني مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أجزائها ببعض (العمدة في محاسن الشعر- تحقيق محمد قرقزات- ج 1- ص: 117).
وهذا يومئ إلى ما ينبغي أن يجمع بين أجزاء النص من وحدة المشاعر والأفكار. تلك الوحدة التي نستشعرها من طي ما حبره ابن قتيبة في مقدمته، إذ يقول: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماءٍ وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن التشبيب قريب  من النفوس لائط بالقلوب لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسُرَى الليل وحَرَّ الهجير وإنضاء الراحلة. والبعير فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأمل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح وفضله على الأشباه وصغر في قدره الجليل، فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعَدَّلَ بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدا منها اغلب على الشعر ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظماء إلى المزيد".
(الشعر والشعراء: ص: 18-19).
لم يتأت استجماع الملامح المشكلة لنظام القريض إلا بالاستقراء والقراءة المتأنية لديوان الشعر العربي القديم، خاصة منه قصائد المدح، على أن تكون الوحدة النفسية والشعورية سلكا ناظما لهذه المراحل.
3- المستوى الصوتي للنص (الإيقاع والموسيقى).
تتآلف الأصوات داخل القصيدة الشعرية وتتناغم لتؤسس بنية موسيقية متكاملة ومنسجمة. وهي من العناصر التي تجعل النص الشعري ينتسب إلى أرومة الإبداع، فحين يستفرغ الشاعر تجربته في سياق يأتلف فيه المعنى والمبنى يحرص على أن يكون جرس ألفاظه مساوقا لدفقته الشعورية حتى تقع قصيدته من نفسية المتلقي موقع القبول والتأثير.
ينشطر هذا المستوى إلى شقين:
- الشق الأول: يسمى بالإيقاع الخارجي، ونفحص من خلاله مكونين أساسين هما الوزن والقافية وما يتعلق بهما. يقول قدامة بن جعفر: "الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى" (نقد الشعر – ص: 53) وعلى الرغم مما يَعْتَوِرُ هذا القول من تخون ونقص، إذ ركز على الجانب الشكلي من عملية النظم، فإنه يقوم دليلا على مركزية هذين العنصرين في تحديد هوية القول الإبداعي. يقول الفارابي: "والجمهور  وكثير من الشعراء إنما يرون أن القول شعر" متى كان موزونا مقسوما بأجزاء يُنْطَقُ بها في أزمنة متساوية". (كتاب الشعر- تحقيق د. محسن مهدي- مجلة شعر- عدد 12- 1959- ص: 90-95).
أما القافية – كما يرى إبراهيم أنيس- فليست "إلا عدة أصوات تتكرر في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكررها هذا يكون جزءا هاما من الموسيقى الشعرية، فهي بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها، ويستمتع بمثل هذا التردد الذي يطرق الآذان في فترات زمنية منتظمة، وبعد عدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن" (موسيقى الشعر – ص: 273).
ويضيف عباس الجراري أن القافية "بكونها لازمة إيقاعية متمثلة في تكرار صوت معين تعتبر عامل تنغيم وعنصر تطريب وصلة رابطة بين الأبيات". (فنية التعبير في شعر ابن زيدون- ص: 36).
تحد القافية من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن قبله مع حركة الحرف الذي قبل هذا الساكن. وقيل إنها آخر كلمة في البيت.
والثابت أن القافية سميت بهذا الاسم لأنها تقفو إثر كل بيت، وكل بيت لابد له من قافية تنظم وزنه الموسيقي مع تكرارها في كل أبيات القصيدة الواحدة.
- الشق الثاني: يسمى بالإيقاع الداخلي، وهو من المكونات الموسيقية التي لا يمكن الذهول عنها لأن الشاعر يلتمس هذه المكونات ويتوسل بأساليبها بغية التكثيف من التوازنات الصوتية ومضاعفة الطاقة الإيقاعية. ومن هذه المكونات الجناس والطباق والتكرار وغيرها مما اصطلح عليه القدماء بالمحسنات التي تزين القول وتسهم في إثراء موسيقى النص.
أما التصريع فهو أن "تكون الألفاظ متساوية البناء متفقة الانتهاء".
(جواهر الألفاظ – قدامة بن جعفر- ص: 2).
وأما التجانس الصوتي فهو "تكرار صوت أو أكثر في الكلمات المتوالية وهو مظهر من مظاهر موسيقى الكلام". (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب- مجدي وهبة وكامل المهندس). 
لا مراء أن الجناس يشيع الانسجام داخل النص ويسربله جمالا ويعينه بمعية المحسنات الأخرى على التلبس بسمة الفرادة والأدبية.
ويبدو أن الجناس – كما يذهب إلى ذلك عبد الله الطيب – "لما فيه من عاملي التشابه في الوزن والصوت من أقوى العوامل في إحداث هذا الانسجام، وسر قوته كامن في كونه يقرب بين مدلول اللفظ وصوته من جهة وبين الوزن الموضوع فيه اللفظ لما يسبغه عليه من دندنة". (المرشد إلى فهم أشعار العرب- ج 2- ص: 662).
أما الطباق أو التقابل فهو "ترتيب الكلام على ما يجب، فيعطي أول الكلام ما يليق به أولا، وآخره ما يليق به آخرا، ويأتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه" (العمدة: 2/15).
ويضيف ابن رشيق أن الطباق أو المطابقة، تعني الجمع بين ضدين في الكلام (العمدة: 2/15) وإذا جاوز الطباق ضدين صار مقابلة. (م. نفسه، ص: 15).
وينزع هذا الأسلوب الذي جعله قدامة بن جعفر من "نعوت المعاني" (نقد الشعر: ص: 141) إلى توكيد المعاني وتقوية الإيقاع وخلق نمط من التجاذب بين دلالات النص وإشاعة روح التناقض والتوتر في التركيب.
وعلى الرغم من أهمية التوازن الصوتي بوصفه خاصية من خصائص القول الشعري، إلا أن التكثيف منه قد يفضي إلى النكوص عن تحقيق هدفين كبيرين هما:
- الهدف التواصلي القائم على الإفهام، إذ ينبغي للشاعر أن يأخذ بيد جمهوره حتى يتمكن من سبر خلج النص واختراق لججه، وذلك عبر التماس أيسر السبل اللغوية الرائجة في المجال التداولي.
- ثم الهدف الخطابي القائم على الإقناع، إذ ينم الإسراف في التوازن عن نوع من التكلف ومجافاة الصدق، وبذلك يتضاءل اقتناع المتلقي فيضرب الصفح عن مقاصد المبدع. 
4- المستوى المعجمي للنص:
إن المستوى المعجمي هو المدخل المفضي إلى فهم النص وتمثل مساربه سواء أكان هذا النص علميا أو أدبيا، لأنه لا وجود لمجال معرفي أو علمي لا يتأسس على المعجم والمصطلحات والمفاهيم الوظيفية، إلا أن استبطان الانتماء الأسري للألفاظ في الشعر لا يكفي للكشف عن مرجعيات النص، بل ينبغي مراعاة السياق أو المقام التواصلي، نظرا إلى ما يميز اللغة الشعرية أو اللغة الراقصة + كما يروق للمعاصرين أن يسموها + من إيحائية ورمزية وتشبع بظلال المعاني.
لقد حاز المعجم اهتمام الدارسين قديما وحديثا، ولاسيما معاجم الشعر؛ إذ "ليس هناك معجم شعري متطور محكوم بشروط ذاتية وموضوعية... فالشاعر الواحد نفسه يكون له معاجم بحسب المقال والمقام". (تحليل الخطاب الشعري- د. محمد مفتاح- ص: 62). 
يتغيى البحث في المعجم الشعري استجلاء طبيعة التشكيل اللغوي الذي ارتضاه الشاعر لبناء قصيدته مؤملا تقديم خبرة شعورية ووجدانية في سياق لغوي منظوم. ومما لا شك فيه ولاَ تَمَيُّلْ أن طبيعة اللغة التي يستكين إليها كل شاعر، والطريقة التي يستعمل بها قاموسه الشعري إنما تعكسان شخصية الشاعر وتنهلان من ذاته وثقافته وتكوينه الفكري، وما يموج به محيطه البيئي الذي نشأ فيه وترعرع.
من هذا المنطلق، فإننا نسلك – في دراسة المستوى المعجمي- المسالك الآتية:
1- استخراج الألفاظ والعبارات وتحديد حقولها الدلالية المعجمية، رجاء إماطة اللثام عن مرجعيات النص.
2- بيان مقصدية الشاعر والعلاقة بين المرجعيات والغرض الشعري .
3- استخراج بنية الزمان الطبيعي.
4- استخراج بنية المكان.
5- المستوى التركيبي للنص.
مما ينبغي أن يرقم في ضمير المتلقي أن الحديث عن قضايا التركيب إنما هو حديث عن كيفية انبناء الدلالات والمعاني في النص المدروس. وينفلق التركيب إلى شق بلاغي وشق نحوي وإذا كان على البلاغة مدار الشعرية، فما هو دور النحو في الشعر؟
إن الإقرار بوجود علاقة بين علم المعاني وعلم النحو أمر لا يلحقه ارتياب، نظرا إلى تعاورهما دراسة الجملة، إذ يبدأ عمل علم المعاني حيث انتهى عمل علم النحو. فلئن كان علم النحو يبدأ باللفظة وينتهي بالجملة، فإن علم المعاني يبدأ بدراسة الجملة ليجاوزها إلى دراسة علاقاتها بباقي الجمل، أو بلغة أخرى فإن علم المعاني يستكمل ما شرع فيه علم النحو، جانحا إلى البحث في مدى مطابقة ذلك التضام الجملي لمقتضى الحال، ومدى مناسبته للمقام، علاوة على توخي جماليات التعبير ونسق العلاقات المنضودة وفق المنطق النحوي، ومن شأن الإخلال بأحدهما أن يفضي إلى نسف القيمة التداولية للخطاب الشعري، وإلى انثلام علائقه وافتضاض عراه.
على أساس من هذا الإيمان قال علي رضي الله عنه: "تعلموا النحو فإن بني إسرائيل كفروا بحرف واحد كان في الإنجيل الكريم مسطورا وهو "أنا ولدت عيسى" بتشديد اللام، فخففوه فكفروا". (نضرة الإغريض في نصرة القريض - المظفر بن الفضل العلوي، ص: 14).
وعلى الرغم من ذلك، فقد تجاسرت بعض الآراء على القول بمعيارية النحو ويسر جداه في النص الشعري، وإن كان الشاعر يلتمس الصور النحوية حينما يتعبه تطلب الصور الفنية. فكيف لا نتحدث، إذن، عن شعر النحو ونحو الشعر؟ وهو مدار الشعرية في تصور عبد القاهر الذي يجعل النظم هو توخي معاني النحو (دلائل الإعجاز- تحقيق محمود شاكر: ص: 81 وص: 361)، وإن كان يلابس في تصوره لهذه المعاني بين مقاصد النحو ومقاصد علم المعاني.
ولا يختلف عزم كوهين، في تعديل المنحى المنقبض إلى أسر النحو انقباضا ساذجا، ذلك أن احترام القواعد النحوية وحدها لا يصنع دلالة أو معنى. النحو ضروري لانتظام الكلام وصحته، ولكن لابد مما يسميه ببديهة قابلية الفهم (بنية اللغة الشعرية- جان كوهن-ص: 105)، أو ما يصطلح عليه النحويون بالإفادة.
ولئن كنا في التركيب النحوي نبحث في العلائق المنطقية الداخلية التي تشكل نسيج النص مثلما نبحث في مدى صحة القول على جهة التركيب، وذلك باستجلاء الظواهر النحوية مثل أسماء الإشارة وصيغ المبالغة وأسلوب الشرط والبدل والتوكيد والضمائر والزمن النحوي من حيث طبيعته ووظيفته وغيرها، فإن دراسة التركيب البلاغي يسلك مسالك الكشف عن تقنيات التشكيل والتوصيل وبناء الصورة داخل القصيدة، ولاسيما بعد التعرف إلى مستواها المعجمي والنحوي والخوض فيهما سبرا وتقسيما، إذ تظل هذه التجليات المعجمية واللغوية والتركيبية  محايدة  لطرائق تقديمها، الأمر الذي تعكسه الأدوات البلاغية والنحوية التي تسم ملفوظات النص.
وفي تقديري أن قوام التركيب البلاغي يتشكل من مبحثين أساسيين:
أ- مبحث المعاني: ويبحث في بعض الظواهر كالتقديم والتأخير والفصل والوصل والجمل الخبرية والإنشائية وغيرها.
ب- مبحث البيان: أو الصورة الشعرية ثم مصادر هذه الصورة (التناص)، بناء على أن الشعر تفكير بالصور، وهذه الصور هي التي تضفي على النص طابعيه الإمتاعي والإقناعي.
أما التصوير فخاصية إلهية راسخة، إذ الله "الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء" (آل عمران: 6)، وهو "الخالق البارئ المصور" (الحشر: 84)، الذي "صوركم فأحسن صوركم" (غافر: 64)، ثم "في أي صورة ما شاء ركبك" (الانفطار: 8)، وهو القائل: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا" (الأعراف: 11).
بهدي من هذا الفهم، تشبع المبدع في البيئة العربية الإسلامية بمبدأ التصوير، إذ يحول الأشياء إلى صور، متنقلا من الأعيان إلى الأذهان إلى البيان:
     
  

   
وفي مرحلة البيان نتحدث عن الصورة بوصفها تجسيدا لعلاقة ذهنية بين الشاعر والعالم الخارجي أو الوجداني الداخلي، ذلك أن الشاعر يترجم عوالمه الداخلية والخارجية إلى صور بوساطة المحاكاة، كما يوضح ذلك الرسم الآتي:


  إن الصورة، بهذا التصور، تشكيل لغوي وفني جمالي لتجربة معيشة أو متخيلة،  يعتمد فيها المبدع تقنية الخيال والتخييل جسرا واصلا بينه  وبين المتلقي، تأسيسا على أن "التخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها، أو تصور شيء آخر بها انفعالا من  غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض" (منهاج البلغاء وسراج الأدباء – حازم القرطاجني- ص: 89).
وتنشطر الصورة من الوجهة البلاغية إلى تشابيه واستعارات. وقد كان القدماء يصلون الشاعرية وأدبية القول بالقدرة على التشبيه لأنه "يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا" ( كتاب الصناعتين – أبو هلال العسكري – ص: 249).
أما البعض الآخر فيجعل الاستعارة آية الاقتدار وعلامة النبوغ لأنها أكثر تأكيدا للمعنى من التشبيه وأقوى إثباتا وتقريرا وحجة. (الدلائل – ع.القاهر: ص: 71-73).
- التشبيه: وهو من أهم الأدوات التي ارتكز عليها الشاعر في تقديم المعنى مصورا، وتضيف إلى العمل الشعري مسحة من الإبداع كلما اقتدر الشاعر على اقتناص أوجه شبه غير متداولة، على اعتبار أن الإجادة والإبداع تؤول في تصور عبد القاهر إلى الجمع بين أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة. (أسرار البلاغة- ص: 148).
- الاستعارة: وتتبوأ مُبَوَّأَ الصدارة في الإبداع الشعري، وقد احتفى بها النقاد قديما وحديثا. والاستعارة تمنح القول خِلابة وجمالا، وتجعله يتسنم ذرى التعبيرية ويكتسب الوسم الإيحائي.

التركيب النحوي (الزمن النحوي أو بنية الأفعال):
يقول سيبويه في سياق حديثه عن الأزمنة التي تتعاقب على الفعل: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع"[1].
وقد سار الدارسون، بعدُ، على فهم هذا النص بأنه يقسم الأزمنة إلى ماض وحاضر ومستقبل، ويشير محمود شاكر إلى أن عبد القاهر الجرجاني تنبه إلى قصور هذا الفهم دون أن يعلله، مما دفعه إلى الاجتهاد في بيان مأتى هذا الحكم، ونظرا إلى أهمية هذا التعليل نورده كاملا –على طوله- يقول: "فسيبويه حين حد" الفعل" في أول كتابه، لم يرد أمثلته التي هي عندنا: فعل  ماض نحو "ذهب"، ومضارع نحو "يذهب"، وأمر نحو "اذهب"، بل أراد بيان الأزمنة التي تقترن بهذه الأمثلة كيف هي في لسان العرب، فجعلها ثلاثة أزمنة.
فالزمن الأول، هو المقترن بالفعل الماضي الذي يدل على فعل وقع قبل زمن الإخبار به، كقولك: "ذهب الرجل"، ولكن يخرج منه الفعل الذي هو على مثال الماضي أيضا، ولكنه لا يدل على وقوع الحدث في الزمن الماضي، نحو قولك في الدعاء: "غفر الله لك" فإنه يدخل في الزمن الثاني، كما سأبينه بعد.
وأما الزمن الثاني، فهو الذي عبر عنه سبيويه بقوله بعد ذلك: "وما يكون ولم يقع"، وذلك حين تقول آمرا: "أخرج"، فهو مقترن بزمن مبهم مطلق معلق لا يدل على حاضر ولا مستقبل، لأنه لم يقع بعد خروجٌ، ولكنه كائن عند نفاذِ "الخروج" من المأمور به ومثله النهي حين تقول ناهيا: "لا تخرج"، فهو أيضا في زمن مبهم مطلق معلق، وإن كان على مثال الفعل المضارع، فقد سُلِبَ الدلالة على الحاضر والمستقبل لأنه لم يقع، ولكنه كائن بامتناع الذي نهي عن الخروج ومثله أيضا في مثال المضارع في قولنا: "قاتلُ النفس يقتل" والزاني المحصن يرجم" فهما مثالان مضارعان، ولا يدلان على حاضر ولا مستقبل، وإنما هما خبران عن حكم،  ولم يقعا عند الإخبار بهما، فهما في زمن مبهم مطلق معلق، وهما كائنان لحدوث القتل من القاتل عند القصاصِ، وحدوث الزنا من الزاني المحصن عند إنفاذ الرجم ويدخل في هذا الزمن أيضا نحو قولك: "غفر الله لك" في الدعاء، وهو على المثال الماضي، فإنك لا تريد إخبارا عن غفران مضى من الله سبحانه، ولكن تريد غفرانا من الله يكون، ولكنه لم يقع بعد، وترجو بالدعاء أن يقع.
وأما الزمن الثالث، فهو الذي عبر عنه سيبويه بقوله: "وما هو كائن لم ينقطع"، فإنه خبر عن حدث كائن حين تخبر به، كقولك: "محمد يضرب ولدهُ" فإنه خبر عن ضربٍ كائن حين أخبرتَ في الحال ولم ينقطع الضرب بعد مضيّ الحال إلى الاستقبال ويلحق بهذا الزمن الثالث أيضا مثال الفعل الماضي كقوله تعالى: "وكان الله غفورا رحيما"، فهو خبرٌ عن مغفرة كانت ولا أَوَّلَ لها، وهي كائنة أبدا لا انقطاع لها، لأنها من صفاتِ الله سبحانه هو الأول والآخر"[2].
ولكن الدارسين المحدثين انسحبوا بعيدا عن وصف طبيعة الزمن النحوي إلى البحث في وظيفته، إذ يدل الماضي على الحسرة والحنين والذكرى والاستقرار والسكون، فيما يدل الزمن المستقبل على الحلم والأمل والطموح والخوف والحذر. أما الحاضر فهو الزمن الحي الثابت والمعيش الذي يجسد لحظات الصراع والرؤى المأساوية[3].  
التناص أو مصادر الصورة:
انعقد الإجماع أو كاد على أنه لا مناص من التناص، ذلك أن كل نص أدبي يخضع لعمليتي الاختيار والتأليف: اختيار العبارات إفرادا وتركيبا، ثم التأليف بينها في إطار صور تعبيرية، تكون موسومة بميسم مبدعها ومما يدخل في دائرة الاختيار: النصوص الأدبية السابقة والمعاصرة والنصوص الدينية والتاريخية والفلسفية وغيرها.
والثابت أن الشاعر يقرأ هذه النصوص قراءة إبداعية ليصهرها في أتون تجربته الشعرية، ويخرج منها بدلالات جديدة تضيف تراكمات كيفية، أو على الأقل كمية إلى المنجز.
وهذه القراءة الإبداعية لعدد من النصوص هي التي ترفد المضامين وتجعل "المدلول الشعري يرمز إلى مدلولات خطابية أخرى على نحو ما يجعلنا نطالع جملة من الخطابات في المعطى أو البيان الشعري الواحد. وهذا ما يخلق حول المدلول الشعري فضاء نصيا مضاعفا، تغدو لعناصره قابلية التطبيق في نص شعري ملموس، ويسمى هذا الفضاء بالتناص (Intertextualité)"[4].
إن عملية التناص، بهذا الفهم، انقباض إلى سلطة نصوص غائبة تشكل المرجع والإحالة للنص الحاضر ويتجه هذا الانقباض، أو هذا التداخل والتفاعل بين الأنساق النصية، حسب كريستيفا، ثلاث وجهات أساسية:
1- النفي الكلي: وهو قلب المعنى أو مناقضة النص الأصلي.
2- النفي التناظري: ويتجه إلى الإبقاء على المعنى العام، مع خلق بعدٍ جديد فرعي ينضاف إلى الأصلي.
3- النفي الجزئي: وهو تجاهل النص الجديد لجزء من النص الأصلي[5] وأرى أن الباحثة قد انساقت مع منحى النفي الذي يمارسه النص الجديد على مرجعياته، إن جزئيا أو كليا، مهملة منحى الإثبات، وهو وارد في عملية التناص.
لئن كانت بعض النصوص تميل إلى الإزراء بالثابت واعتناق مبدأ الهدم فإن بعضها الآخر يحطب في حبل النمطية، دون أن يقوى على اختراق سجف الجاهر مما يجعله بمنأى عن الخلق والإبداع والجدة.
ولما كان السياق الشعري العربي مباينا للسياق الشعري الغربي، والعمل الشعري لا ينضبط للضوابط المنطقية وللاعتبارات الآلية، بالإضافة إلى كونه نقطة جذب لنصوص ومرجعيات راغبة عن سياقاتها المختلفة، لتلتئم وتتآلف في سياق موحد هو سياق النص الجديد، فإن الكشف عن النصوص الغائبة يغدو عملية صعبة، بله تحديد نمط الاستجلاب والاقتباس، إذ يسعى الشاعر عبر الهدم والبناء، وبتضافر مكونات التخييل والإيقاع والأسلوب إلى التخطي والتجاوز، وخلق المفارقة السياقية والمقصدية. ولعل الصورة المستجلبة ليست مجرد معطيات معجمية أو تشكيلات لغوية، بل هي أيضا قواعد تركيبية تستند إلى سياق واسع، لذلك ينبغي الربط بين التناص والسياق، والربط بينه وبين المقاصد، بمعنى ضرورة مراعاة الجانبين الفني التشكيلي والمقصدي الوظيفي النازع إلى الخروج ببنية جديدة في إطار التوظيف السياقي.
ومهما يكن من أمر، فإن محمد مفتاح ينزع إلى استخلاص مقومات التناص من تعاريف عديدة ليقول:"- فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة.
- ممتص لها يجعلها من عندياته وبتصييرها منسجمة مع فضاء بنائه، ومع مقاصده. – محول لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بهدف تعضيدها ومعنى هذا، أن التناص هو تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة". (تحليل الخطاب الشعري – ص: 121).     

           


[1] - كتاب سيبويه، (أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر)، بيروت: عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، د.ط، ج 1، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ص: 12.
[2] - "المتنبي" رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة- مكتبة الخانجي بمصر، 1987، ص- ص 12-13.
[3]- ينظر: حركية الإبداع، دراسات في الأدب العربي الحديث، خالدة سعيد، بيروت، لبنان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1986، ط 3، ص: 94.
وينظر أيضا: التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث، د. صابر عبد الدايم، مكتبة الخانجي مصر، 1990، ط1، ص: 63.
[4] - recherches pour une sémanalyse, Julia Kristeva, paris, édition du seuil, 1986,p 194.
Dictionnaire encyclopédique, p 446. وينظر أيضا 
[5] - Recherches pour une sémanalyse, Kristeva, p 195-196.  

هناك تعليقان (2):

  1. شكر الله لك على هذا التّوضيح

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا لك على هذا التوضيح،اتمنى الاستمرار في هذا العمل الرائع

    ردحذف